وخرجت قريش مسرعة لإنقاذ عيرها ورجالها ، ولتلقي بالمسلمين في حرب تراها قاضية على قوة المسلمين التي ظلت تهدد تجارتهم. ولم يتخلف من أشرافهم سوى أبي لهب ، فإنه أرسل مكانه العاص بن هشام ، مقابل دين كان عليه ، مقداره أربعة آلاف درهم. و لم يتخلف من بطون قريش سوى بني عدي.
وبلغ عددهم في بداية مسيرهم نحو ألف وثلثمائة محارب، معهم مائة فرس وستمائة درع وجمال كثيرة، بقيادة أبي جهل.
وعندما خشوا أن تغدر بهم بنوبكر لعدواتها معهم ، كادوا أن يرجعوا عماأرادو ، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك المدلجي ، سيد بني كنانة ، وقال لهم : (أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه. فخرجوا من ديارهم كما حكى عنهم القرآن (بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله).
رأت عاتكة بنت عبدالمطلب فيما يرى النائم قبل مقدم ضمضم بن عمرو بخبر أبي سفيان بثلاث ليال ، فقالت : رأيت رجلاً أقبل على بعير له فوقف بالأبطح ، فقال : انفروا يا آل بدر لمصارعكم في ثلاث ، فذكرت المنام وفيه : ثم أخذ صخرة فأرسلها من رأس الجبل ، فأقبلت تهوي حتى ترضضت فما بقيت دار ولا بنية إلا ودخل فيها بعضها. وفي القصة إنكار العباس على أبي جهل قوله : (حتى حدثت فيكم هذه النبية) ، وإرادة العباس أن يشاتمه ، واشتغال أبي جهل عنه بمجيئ ضمضم يستنفر قريشاً لصد المسلمين عن عيرهم ، فتجهزوا وخرجوا إلى بدر ، فصدق الله رؤيا عاتكة.
فأطاعه القوم ما عدا الأخنس بن شريق ، حيث رجع بقومه بني زهرة ، وطالب بن أبي طالب ، لأن قريشاً في حوارها معه ، اتهمت بني هاشم بأن هواهم مع محمد صلى الله عليه وسلم. وساروا حتى نزلوا قريباً من بدر ، وراء كثيب يقع بالعدوة القصوى ، على حدود وادي بدر.
وبلغ خبر ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم ، فاستشار أصحابه. وخشي فريق منهم المواجهة في وقت لم يتوقعوا فيه حربا كبيرة ، ولم يستعدوا لها بكامل عدتهم وعتادهم ، فجادلوا الرسول صلى الله عليه وسلم ليقنعوه بوجهة نظرهم. وفيهم نزل قول الله تعالى: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون. يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهو ينظرون. وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين).
وتكلم قادة المهاجرين، وأيدوا الرأي القائل بالسير لملاقاة العدو، منهم أبوبكر وعمر والمقداد بن عمرو.و مما قاله المقداد: ( يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ههنا قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه). وفي رواية قال : (لا نقول كما قال قوم موسى : اذهب أنت وربك فقاتلا ، ولكننا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك) ، وسر النبي صلى الله عليه وسلم من قوله.
وبعد سماعه كلام قادة المهاجرين ، قال : (أشيروا علي أيها الناس) ، وكان بذلك يريد أن يسمع رأي قادة الأنصار ، لأنهم غالبية جنده ، ولأن نصوص بيعة العقبة الكبرى لم تكن في ظاهرها ملزمة لهم بحماية الرسول صلى الله عليه وسلم خارج المدينة ، وأدرك سعد بن معاذ – حامل لواء الأنصاء – مراد الرسول صلى الله عليه وسلم ، فنهض قائلا : (والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : أجل. قال : فقد آمنا بك فصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا ، على السمع والطاعة ، فامض يا رسول اله لما أردت ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً ، إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء ، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله).
فسر رسول صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، ونشطه ذلك ، ثم قال : سيروا وأبشروا: فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن انظر إلى مصارع القوم).
وفي الطريق وعند بحرة الوبرة أدركه رجل من المشركين ، قد كان يذكر منه جرأة ونجدة ، أراد أن يحارب معه ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : (ارجع فلن أستعين بمشرك) ، ثم عرض له مرة ثانية بالشجرة ، ومرة ثالثة بالبيداء ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول ما قاله أول مرة ، وأخيراًأقرالإسلام ، فقبله والرسول صلى الله عليه وسلم.
وعندما وصل قريباً من الصفراء ، بعث بسبس بن الجهني وعدي بن أبي الزغباء الجهني إلى بدر يتحسسان له الأخبار عن أبي سفيان وعيره.
ويروى أنه خرج هو وأبوبكر لهذا الغرض ، ولقيا شيخا فسألاه عن جيش قريش ، فاشترط عليهما أن يخبراه ممن هما ، فوافقا ، وطلبا منه أن يخبرهما هو أولاً ، فأخبرهما بأنه قد بلغه أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن صدق الذي أخبره فم اليوم بمكان كذا وكذا – للمكان الذي به جيش المسلمين – وإن صدق الذي أخبره بجيش قريش فهم اليوم بمكان كذا – للمكان الذي به جيش قريش.
ولما فرغ من كلامه قال : ممن أنتما ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء ، ثم انصرفا عنه، وتركاه يقول : من ماء ؟ أمن ماء العراق ؟
وفي مساء ذلك اليوم أرسل علياً والزبير وسعداً بن أبي وقاص في نفر من أصحابه لجمع المعلومات عن العدو ، فوجدوا على ماء بدر غلامين يستقيان لجيش مكة ، فأتوا بهما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ، وأخذوا في استجوابهما. فأفادا أنهما سقاة جيش قريش، فلم يصدقوهما ، وكرهوا هذا الجواب ، ظنا منهم أنهما لأبي سفيان ، إذ لا يزال الأمل يحدوهم في الحصول على العير. وضربوهما حتى قالا إنهما لأبي سفيان.
وعندما فرغ الرسول صلى الله عليه وسلم من صلاته عاتب أصحابه لأنهم يضربونهما إذا صدقا، ويتركونهما إذا كذبا. ثم سألهما الرسول صلى الله عليه وسلم عن مكان الجيش المكي ، فقال : هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى.
وعندما سألهما عن عدد جيش مكة وعدته لم يستطيعا تحديد ذلك ، لكنهما حددا عدد الجزور التي تنحر يومياً بأنها ما بين التسعة والعشرة ، فاستنتج الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم بين التسعمائة والألف ، وذكرا له من بالجيش من أشراف مكة ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه : (هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها). وأشار إلى مكان مصارع جماعة من زعماء قريش ، فما ماط أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن نعمة على المسلمين يوم بدر أيضاً أن غشيهم النعاس أمنة منه ، كما في صدر آية نعمة إنزال المطر : (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ، ويذهب عنكم رجز الشيطان ، وليربط على قلوبكم ويثبت به الاقدام).
روى في ذلك الإمام أحمد بسنده إلى أنس بن مالك أن أبا طلحة ، قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم بدر ، فكنت فيمن غشيه النعاس يومئذ فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه.
وزاد الله المؤمنين فضلاً بان أوقع الخلاف في صفوف عدوهم. فقد روى أحمد أن عتبة بن ربيعة أخذ يثني قومه عن القتال محذرا من مغبته ، لأنه علم أن المسلمين سوف يستميتون، فاتهمه أبو جهل بالخوف. وروى البزار ، أن عتبة قال لقومه يومذاك : إن الأقارب سوف تقتل بعضهم بعضاً ، مما يورث في القلوب مرارة لن تزول، فاتهمه أبو جهل بالخوف ، وليريه شجاعته ، دعا أخاه وابنه وخرج بينهما داعياً إلى المبارزة.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد رأى عتبة على جمل أحمر ، فقال : (إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر ، إن يطيعوه يرشدوا). وشاء الله أن يعصوه ، وضاع رأيه وسط إثارة أبي جهل الثارات القديمة.
وعندما استقروا في المكان ، قال سعد بن معاذ مقترحاً : (يا نبي الله ، ألا نبني لك عريشاً تكون فيه ، ونعد عندك ركائبك ، ثم نلقى عدونا ، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا ، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا ، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حباً منهم ، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك ، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك) ، فوافق الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الاقتراح.
ويفهم من النصوص الواردة في شأن القتال ببدر أن الرسول صلى الله عليه وسلم شارك في القتال ، ولم يمض كل وقته داخل هذا العريش أو في الدعاء ، كما فهم بعض كتاب السيرة.
فقد روى الإمام أحمد عن علي ، قال : (لقد رأيتنا في يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا من العدو ، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً) ، وفي موضع آخر بالسند نفسه : (لما حضر البأس يوم بدر ، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان من أشد الناس ، ما كان أو لم يكن أحد أقرب إلى المشركين منه).
بعد أن اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم كل الوسائل المادية الممكنة للنصر في حدود الطاقة البشرية ، بات ليلته يتضرع إلى الله تعالى أن ينصره ، ومن دعائه كما جاء في رواية عند مسلم : { اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم آت ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل السلام لا تعبد في الأرض} وتقول الرواية : { فما زال يهتف بربه حتى سقط رداؤه عن منكبيه. فأتاه أبوبكر ، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه ، وقال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله عز وجل : { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين}.
ومما رواه البخاري من دعائه في ذلك اليوم : { اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن تشأ لا تعبد بعد اليوم} ، وتقول الرواية : { فأخذ أبو بكر بيده فقال : حسبك يا رسول الله ، ألححت على ربك ، وهو يثب في الدرع فخرج وهو يقول : {سيهزم الجمع ويولون الدبر}.
وروى ابن حاتم بإسناده إلى عكرمة أنه قال : لما نزلت { سيهزم الجمع ويولون الدبر} ، قال عمر : أي جمع يهزم ؟ أي جمع يغلب ؟ قال عمر : فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع ، وهو يقول : (سيهزم الجمع ويولون الدبر) فعرفت تأويلها يومئذ.
وفي صباح يوم الجمعة ، السابع عشر من رمضان – السنة الثانية من الهجرة وعندما تراءى الجمعان ، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه قائلاً : {اللهم فنصرك الذي وعدتني ، اللهم أحنهم الغداة}.
وعندما وقف المسلمون في صفوف القتال ، أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم في تعديل صفوفهم وفي يده قدح ، فطعن به سواد بن غزية في بطنه ، لأنه كان متنصلا من الصف ، وقال له : { استو يا سواد ، فقال سواد : يا رسول الله : أوجعتني فأقدني ، فكشف عن بطنه ؟ قال : استقد ، فاعتنقه سواد وقبل بطنه ، فقال : ما حملك على هذا يا سواد ؟ قال : يا رسول الله ، قد حضر ما ترى ، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدك جلدي}. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير.
ثم أخذ في توجيههم في أمر الحرب ، قائلا : إذا أكثبوكم – أي قربوا منكم - فارموهم واستبقوا نبلكم. ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم. وحرضهم على القتال ، قائلا : { والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة } ، وفي رواية عند مسلم أنه عندما دنا المشركون قال النبي صلى الله عليه وسلم : { قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض}. عندما سمع ذلك عمير بن الحمام الأنصاري ، قال : يا رسول الله ! أجنة عرضها السموات والأرض ؟ قال : { نعم} قال : بخ بخ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {ما يحملك على قولك بخ بخ}قال : لا ، والله ! يا رسول الله ! إلا رجاءه أن أكون من أهلها. قال : { فإنك من أهلها } ، فأخرج تمرات من قرنه ، فجعل يأكل منهن. ثم قال : لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة. قال : فرمى بما كان معه من التمر ، ثم قاتلهم حتى قتل.
وقال عوف بن الحارث – بن عفراء - : يا رسول الله ، ما يضحك الرب من عبده ، قال :{غمسه يده في العدو حاسراً } ، فنزع درعا كانت عليه ، فقذفها ، ثم أخذ سيفه فقاتل حتى قتل.
وطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من أصحابه ، قبل بدء المعركة ، ألا يقتلوا نفرا من بني هاشم وغيرهم لأنهم خرجوا مكرهين ، وسمى منهم أبا البختري بن هشام – الذي كان ممن سعى لنقض صحيفة المقاطعة ولم يؤذ النبي صلى الله عليه وسلم – والعباس بن عبدالمطلب. وعندما سمع أبو حذيفة ذلك قال : {أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخوننا وعشيرتنا ونترك العباس ، والله لئن لقيته لألحمنه – أو لألجمنه – بالسيف} ، فبلغت مقالته رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لعمر : { يا أبا حفص ؟ أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بالسيف ؟ } فقال عمر : يا رسول الله ، دعني فلأضرب عنقه بالسيف ، فوالله لقد نافق}. فكان أبو حذيفة يقول : {ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ ، ولا أزال منها خائفاً إلا أن تكفرها عني الشهادة} ، فقتل يوم اليمامة شهيداً.
وقبل ابتداء القتال خرج الأسود بن عبدالأسد المخزومي ، فقال : { أعاهد الله لأشربن من حوضهم ، أو لأهدمنه ، أو لأموتن دونه} ، وتصدى له حمزة ، وضربه ضربة أطارت قدمه بنصف ساقه ، ثم حبا إلى الحوض مضرجا بدمائه ليبر قسمه ، واتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض.
المبارزة:
بعد هذا خرج ثلاثة فرسان قريش يطلبون المبارزة وهو عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة والوليد بن عتبة ، فخرج لهم ثلاثة من شباب الأنصار وهم عوف ومعوذ ابنا الحارث – وأمهما عفراء – وعبدالله بن رواحة ، فلم يقبل فرسان قريش بغير بني أعمامهم من المهاجرين ، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم عبيدة بن الحارث وحمزة وعلي أن يبارزوهم. وكان حمزة لعتبة ، وعبيدة للوليد ، وعلي لشيبة. وقتل علي وحمزة صاحبيهما وأعانا عبيدة على قتل الوليد ، واحتملا عبيدة الذي أثخنه الوليد بالجراح. وفي هؤلاء الستة نزل قول الله تعالى : {هذان خصمان اختصموا في ربهم ، فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يُصب من فوق رؤوسهم الحميم}.
ثم طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من علي أن يناوله كفا من حصى ، فناوله ذلك ، فرمى به وجه القوم ، فما بقي أحد من القوم إلا امتلأت عيناه من الحصباء ، فنزلت الآية الكريمة {وما رميت إذ ميت ولكن الله رمى}.
والملائكة تشهد بدراً :
ونزل المسلمون ساحة المعركة بقوة إيمانية كبيرة ، وشدوا على المشركين ، وأخذوا في اقتطاف رؤوسهم، وأمدهم الله بالملائكة لينصرهم على عدوهم ، كما في قوله تعالى : {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة} الآيات ، و {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} و {إذ يوحى ربك إلى الملائكة أني معكم ، فثبتوا الذين آمنوا ، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب}. الآية.
وكما روى من الأحاديث في هذا الشأن. فقد روى مسلم في هذا : { بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه ، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول : أقدم حيزوم ، فنظر إلى المشرك أمامه ، فخر مستلقيا ، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه ، وشق وجهه كضربة السوط ، فاخضر ذلك أجمع. فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : {صدقت. ذلك من مدد السماء الثالثة}. وروى أحمد أن رجلا من الأنصار قصير القامة جاء بالعباس أسيراً ، فقال العباس : { يا رسول الله ، إن هذا والله ما أسرني ، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها ، على فرس أبلق ، ما أراه في القوم} ، فقال الأنصاري : {أنا أسرته يا رسول الله. فقال : {اسكت ، فقد أيدك الله تعالى بملك كريم}. وروي الأموي أن الرسول صلى الله عليه وسلم خفق خفقة في العريش ثم انتبه ، فقال : { أبشر أبا بكر ، أتاك نصر الله ، هذا جبريل معتجر بعمامة ، آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع ، أتاك نصر الله وعدته}.
ورويت أحاديث في مشاركة الملائكة المسلمين يوم بدر ولم تصرح بالقتال. فقد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر : {هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب} ، وقال في رواية أخرى : {جاء جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال : من أفضل المسلمين أو كلمة نحوها – قال : وكذلك من شهد بدراً من الملائكة}. وروى الحاكم أنه كانت على الزبير يوم بدر عمامة صفراء معتجر بها ، فنزلت الملائكة عليهم عمائم صفر.
لقد أكرم الله عباده المؤمنين يوم بدر ببعض الكرامات. فقد روى أن عكاشة بن محصن قاتل بسيفه يوم بدر حتى انقطع في يده ، فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم جذلاً من حطب ليقاتل به ، فإذا هو في يده سيفاً طويلاً شديد المتن أبيض الحديدة ، فقاتل به يوم ذاك وفي المعارك الأخرى التي شهدها بعد ذلك ، وآخرها يوم اليمامة – أحد أيام حروب الردة – حين قتل شهيداً.
وعندما رأى إبليس – وكان في صورة سراقة بن مالك – ما تفعل الملائكة والمؤمنين بالمشركين ، فر ناكصاً على عقبيه ، حتى ألقى بنفسه في البحر.
مصرع الطغاة :
أبو جهل : روى البخاري ومسلم من حديث عبد الرحمن بن عوف أنه قال : { إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت ، فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن ، فكأني لم آمن بمكانهما ، إذ قال لي أحدهما سراً من صاحبه : يا عم ، أرني أبا جهل ، فقلت : يا ابن أخي ، فما تصنع به ؟ قال : أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا ، فتعجبت لذلك. قال : وغمزني الآخر فقال لي مثلها ، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس ، فقلت : ألا تريان ؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه ، قال : فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه ، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أيكما قتله ؟ فقال كل واحد منهما : أنا قتلته ، قال : هل مسحتما سيفكما ؟ فقالا : لا . فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السيفين ، فقال : كلاكما قتله ، وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح ، والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء}.
وروى ابن إسحاق ، من حديث معاذ بن الجموح أنه قال : { سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة – أي الشجرة الكثيرة الأغصان - ، وهم يقولون : أبو الحكم لا يخلص إليه ، قال : فلما سمعتها جعلته من شأني ، فصمدت نحوه ، فلما أمكنني حملت عليه ، فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه … وضربني ابنه عكرمة على عاتقي ، فطرح يدي ، فتعلقت بجلدة من جنبي ، وأجهضني القتال عنه ، فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي ، فلما آذتني وضعت عليها قدمي ، ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها ، ثم مر بأبي جهل – وهو عقير – معوذ بن عفراء – فضربه حتى ثبته فتركه وبه رمق ، وقاتل معوذ حتى قتل}.
وروى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : عندما انجلت المعركة : { من ينظر ما صنع أبو جهل ؟ فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد ، قال : أنت أبوجهل ؟ قال : فأخذ بلحيته ، قال : وهل فوق رجل قتلتموه أو رجل قتله قومه ؟ } وفي رواية أحمد أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب مع ابن مسعود ليرى جسد أبي جهل ، وقال : { كان هذا فرعون هذه الأمة } . وفي رواية ابن إسحاق إن أبا جهل قال لابن مسعود عندما جثا عليه : {لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رويعي الغنم}.
أمية بن خلف : تمكن عبد الرحمن بن عوف من أسر أمية ، وعندما رآه بلال معه ، قال : { رأس الكفر أمية بن خلف ، لا نجوت إن نجا } ،وحاول عبد الرحمن أن يثنيه عن عزمه فلم يستطع ، بل استنفر بلال الأنصار فلحقوا به معه وقتلوه على الرغم من أن ابن عوف ألقى عليه نفسه وأمية بارك.
وعندما طرح قتلى المشركين في القليب ، لم يطرح معهم ، لأنه انتفخ في درعه فملأها ، وعندما ذهبوا ليحركوه تفرقت أعضاؤه ، فتركوه في مكانه ، وألقوا عليه ما غيبه من الحجارة والتراب .
ج} العاص بن هشام بن المغيرة : كان العاص بن هشام بن المغيرة خال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ولذا حرص عمر على قتله ، فقتله حتى يعلم أن ليس في قلبه ولاء إلا لله وحده.
لقد انجلت معركة بدر عن نصر كبير للمسلمين. إذ قتلوا سبعين من المشركين ، وأسروا سبعين ، ولم يقتل من المسلمين سوى أربعة عشر رجلا ، ستة من قريش وثمانية من الأنصار.
دفن قتلى المشركين في القليب :
روى البخاري ومسلم وأحمد وابن إسحاق وغيرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث
وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال ، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى واتبعه أصحابه ، وقالوا : ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته ، حتى قام على شفة الركية فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : { يا فلان ابن فلان ، ويا فلان بن فلان ، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله ؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ } فقال عمر : { يا رسول الله ، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها} ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :{والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم}.
وعندما ألقوا في القليب ، وفيهم عتبة بن ربيعة ، نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وجه ابنه أبي حذيفة ، فإذا هو كئيب قد تغير لونه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : { لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء } ، فقال : لا والله يا رسول الله ، ما شككت في أبي ولا في مصرعه ، ولكنني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا ، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام ، فلما رأيت ما أصابه ، وذكرت ما مات عليه من الكفر ، بعد الذي كنت أرجو له ، أحزنني ذلك. فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بخير وقال له خيراً.
وبعد نهاية المعركة وانتصار المسلمين وأخذ الأسرى ، قيل للرسول صلى الله عليه وسلم :{عليك بالعير ، ليس دونها شيء}. فناداه العباس أن ذلك لا يصلح له ، قال : { ولم ؟ } قال : لأن الله عز وجل إنما وعدك إحدى الطائفتين ، وقد أعطاك ما وعدك.
الغنائم :
وقع خلاف بين المسلمين حول الغنائم ، لأن حكمها لم يكن قد شرع يومذاك. وقد حكى عبادة بن الصامت ما حدث ، قائلا : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدرا. فالتقى الناس ، فهزم الله تبارك وتعالى العدو ، فانطلقت طائفة في آثارهم ، يهزمون ويقتلون ، وأكبت طائفة على المعسكر يحوونه ويجمعونه ، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة ، حتى إذا كان الليل ، وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب ، وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق بها منا ، فنحن نفينا عنها العدو وهزمناهم ، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم : لستم بأحق بها منا ، نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وخفنا أن يصيب العدو منه غرة ، واشتغلنا به ، فنزلت : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على فُوَاق المسلمين – أي بالتساوي.
ومما يدل على أن الغنائم قد خمست ووزعت على المشاركين فيها ما رواه البخاري عن علي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه مما أفاء الله عليه من الخمس يومئذ.
وقد أسهم الرسول صلى الله عليه وسلم لتسعة من الصحابة لم يشهدوا بدرا لأعمال كلفوا بها في المدينة أو لأعذار مباحة ، منهم عثمان بن عفان ، لأنه كان يمرض زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأسرى :
استشار الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة في أمر الأسرى. فأشار أبوبكر بأخذ الفدية منهم بحجة أن في ذلك قوة للمسلمين على الكفار ، وعسى الله أن يهديهم للإسلام. ورأى عمر قتلهم ، لأنهم أئمة الكفر. ومال الرسول صلى الله عليه وسلم لرأي أبي بكر. فنزل القرآن موافقا لرأي عمر ، وهو قوله تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ، والله عزيز حكيم ، لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} إلى قوله تعالى : {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا}.
وكان أخذ الفداء حلالا في أول الإسلام، ثم جعل فيما بعد الخيار للإمام بين القتل أو الفداء أو المنّ ما عدا الأطفال والنساء ، إذ لا يجوز قتلهم ، ما داموا غير محاربين. قال تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها}.
وقد تباين فداء الأسرى. فمن كان ذا مال أخذ فداؤه أربعة آلاف درهم. وممن أخذ منه أربعة آلاف درهم أبو وداعة. وأخذوا من العباس مائة أوقية. ومن عقيل بن أبي طالب ثمانين أوقية ، ودفعها عنه العباس ، وأخذوا من آخرين أربعين أوقية فقط.
وأطلق الرسول صلى الله عليه وسلم سراح عمرو بن أبي سفيان مقابل أن يطلقوا سراح سعد بن النعمان بن أكال ، الذي أسره أبو سفيان وهو يعتمر.
ومن لم يكن لديهم مقدرة على الفداء ، وكانوا يعرفون الكتابة ، جعل فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة. فقد روى أحمد عن ابن عباس ، قال : { كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة ، فجاء غلام يوما يبكي إلى أبيه ، فقال : ما شأنك ؟ قال: ضربني معلمي ، قال : الخبيث ! يطلب بذحل بدر ! – أي بالثأر والعداوة - والله لا تأتيه أبدا} .
وكانوا يقبلون من بعض الأسارى ما عندهم إذا تعذر المفروض ، فقد أرسلت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلادة لها لتفدي زوجها أبا العاص بن الربيع ، فردوها لها ، وأطلقوا لها أسيرها لمكانتها عند والدها محمد صلى الله عليه وسلم ، وبهذا كان ابن الربيع ممن أطلق بدون فداء ، وأطلق الرسول صلى الله عليه وسلم من لم يقدر على الفداء بأي شكل من الأشكال ، منهم : المطلب بن حنطب المخزومي وصيفي بن أبي رفاعة وأبو عزة الشاعر.
وعندما استأذن رجال من الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم في ترك فداء العباس قال : { والله لا تذرون منه درهما } وذلك على الرغم من أن العباس ذكر أنه كان مسلما وأنه خرج مستكرها.
وفي طريق العودة إلى المدينة ، قتل النضر بن الحارث بمنطقة الصفراء – قتله علي – وقتل عقبة بن أبي معيط بمنطقة عرق الظبية – قتله عاصم بن ثابت ، ويقال : قتله علي. وذلك لعدواتهما الشديدة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وتلك نهاية الجبروت والشجاعة الزائفة. فقد رأينا عقبة ، لصيق قريش ، واليهودي الأصل ، يعود إلى حقيقته عندما قال للرسول صلى الله عليه وسلم مسترحما : { من للصبية يا رسول الله ؟ فأجابه : النار} .
أما بقية الأسرى فقد استوصى بهم الرسول صلى الله عليه وسلم خيراً ، فقد حكى أبو عزيز – شقيق مصعب بن عمير – وهو بين رهط من آسريه الأنصار – أن آسريه كانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوه بالخبز وأكلوا التمر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسرى ، حتى ما تقع في يد أحد هم خبزة إلا ناوله إياها ، فيستحي فيردها على أحدهم ، فيردها عليه ما يمسها.
وأسلم كثير من هؤلاء الأسرى على فترات مختلفة قبل فتح مكة وبعدها ، منهم : العباس ، عقيل بن أبي طالب ، نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، خالد بن هشام ، عبد الله بن السائب ، المطلب بن حنطب بن الحارث ، أو وداعة الحارث بن صبيرة ، الحجاج بن الحارث بن قيس ، عبد الله بن أبي خلف ، وهب بن عمير ، سهيل بن عمرو ، عبد بن زمعة ، قيس بين السائب ، نسطاس مولى أمية بن خلف ...
كانت موقعة بدر ذات أثر كبير في إعلاء شأن الإسلام ، ولذا سميت في القرآن بيوم الفرقان. وأوضحت الأحاديث فضل البدريين وعلو مقامهم في الجنة. فقد عقد البخاري بابا في فضل من شهدها. وفيه قصة حارثة بن سراقة الذي أصابه سهم طائش يوم بدر ، وهو غلام ، وجاءت أمه تسأل عن مصيره يوم القيامة ، فبشرها الرسول صلى الله عليه وسلم بأن له جنانا كثيرة وأنه في جنة الفردوس.
وفيه قصة حاطب بن أبي بلتعة الذي أرسل إلى قريش يخبرهم بنية الرسول صلى الله عليه وسلم فتح مكة ، فكشفه الوحي ، وعفا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقال لعمر حين طالب بقتله : { لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة ، أو فقد غفرت لكم}. ولما قال عبد من عبيد حاطب : { يا رسول الله ، ليدخلن حاطب النار} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { كذبت ، ولا يدخلها ، فإنه شهيد بدرا والحديبية }.
وأسلم من زالت الغشاوة عن عينيه ، ونافق من أضله الله حفاظا على مصالحة الخاصة ، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول ، الذي قال حينذاك : { هذا أمر قد توجه – أي استقر- فلا مطمع في إزالته }.
أحكام وحكم من غزوة بدر :
لقد تضمنت أحداث عزوة بدر أحكاماً وحكما كثيرة ، من أهمها :
* جواز النكاية بالعدو ، بقتل رجالهم وأخذ أموالهم وإخافة طرقهم التي يسلكونها ، لما في ذلك من إضعافهم معنويا واقتصاديا.
* جواز استخدام العيون لكشف أحوال العدو وإفشال خططه.
* تأكيد الرسول صلى الله عليه وسلم على مبدأ الشورى لأهل الحل والعقد وعامة المسلمين ، وقد وردت أدلة على حجية الشورى في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وسنة الخلفاء الراشدين.
* جواز المبارزة بإذن الأمير ، وهذا قول عامة أهل العلم.
* المساواة بين الجندي وقائده في السلم والحرب سواء ، وقد اتضح ذلك من قصة سواد مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ كشف الرسول صلى الله عليه وسلم عن بطنه ليقتاد منه سواد.
* جواز فداء الأسارى أو المن عليهم.
* لا حرج من قتل الأسير قبل أن يصل إلى يد الإمام ، كما فعل بلال ومن معه من الأنصار عندما قتلوا أمية بن خلف وهو في أسر عبد الرحمن بن عوف.
* أحلت الغنيمة لهذه الأمة ، وقسمتها على المقاتلين بعد تخميسها.
* من قتل قتيلا فله سلبه ، على شرط : أن يكون المقتول من المقائلة وليس ممن نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتلهم ، وهم النساء والصبيان والشيوخ الفانون … إلخ ، وأن يكون في المقتول منفعة وغير مثخن بالجراح ، أن يقتله أو يثخنه بجراح تجعله في حكم المقتول ، وأن يقرر بنفسه في قتله فأما إن رماه بسهم من صف المسلمين فقتله فلا سلب له.
* دلت واقعة قضية الأسرى على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان له أن يجتهد ، والذين ذهبوا إلى هذا استدلوا على ذلك بمسألة أسرى بدر. وإذا صح للرسول صلى الله عليه وسلم أن يجتهد ، صح منه بناء على ذلك أن يخطئ في الاجتهاد ويصيب. غير أن الخطأ لا يستمر ، بل لا بد من أن تنزل آية من القرآن تصحح له اجتهاده ، فإذا لم تنزل آية فهو دليل على صحة اجتهاده صلى الله عليه وسلم.
* الأصل أن يبذل المسلمون كافة جهودهم في الإعداد للمعركة وفي مجابهة العدو ، قال تعالى :{ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل …} ومع ذلك فان الله يؤيد جنده بخوارق لتعينهم على النصر ، إذا كانوا أهلاً له ، كما حصل بإمداد الملائكة في بدر ، وبأن غشى النعاس عيون المؤمنين ، وأنزل عليهم المطر.
* إن أهل بدر مغفور لهم يوم القيامة ، أما أحكام الدنيا فإنها تؤخذ منهم ، ويعاقبون عليها إن أتوها كما وقع لقدامة بن مظعون ، عندما حد في الخمر.
* إن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد انتهاء المعركة أن يقيم في العرصة – مكانها – ثلاثة أيام.
* السنة في الشهداء أن يدفنوا في مضاجعهم ، كما حدث لشهداء بدر وأحد ولا يصلي عليهم كما ثبت بالنسبة لشهدا أحد ، ولم يذكر أنه صلى على شهداء بدر.
* لقد تجلت في بدر بطولات إيمانية كثيرة : على سبيل المثال ما روي من أن أبا عبيدة عامر بن الجراح قتل والده الجراح يوم بدر. فقد جعل والد أبي عبيدة يتصدى لابنه أبي عبيدة يومذاك فيحيد عنه الابن ، فلما أكثر قصده قتله ، فنزلت الآية : {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله…}.
وروى ابن إسحاق من حديث أبي عزيز بن عمير ، قال : مر بي أخي معصب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني ، فقال : شد يديك به فإن أمه ذات متاع ، لعلها تفديه منك ! … وزاد ابن هشام على هذه الرواية فقال : فلما قال أخوه مصعب بن عمير لأبي اليسر ، وهو الذي أسره ، ما قال ، قال له أبو عزيز : يا أخي ، هذه وصاتك بي ! فقال له مصعب : إنه أخي دونك.
إرسال تعليق