يحيط بحياة الرسول صلى الله عليه و سلم في مكة كثير من الغموض خاصة قبل بعثته , لأن الأضواء لم تسلط علية ألا بعدها بوجه خاص , فروايات المؤرخين عن الرسول بعد الهجرة
من المولد حتى البعثة
تمهيد
يحيط بحياة الرسول صلى الله عليه و سلم في مكة كثير من
الغموض خاصة قبل بعثته , لأن الأضواء لم تسلط علية ألا بعدها بوجه خاص , فروايات المؤرخين
عن الرسول بعد الهجرة تكاد تكون متفقة في تفاصيلها وأشخاصها وزمانها و مكانها ,
ذلك لأنة أصبح الشخصية الأولى في المجتمع الإسلامي فضلا عن أنة صاحب الرسالة
الإسلامية التي اخرجت المجتمع الجاهلي من الظلمات إلى النور
أما حياته قبل البعثة
فكانت ضمن التاريخ الجاهلي ومحمد فيها لم يكن أشهر الشخصيات في مكة , وربما اهتم
الناس بحياة عبد المطلب وأبى سفيان والوليد بن المغيرة أكثر من اهتمامهم بحياة
محمد , والمتصفح لكتب التاريخ الإسلامي عن حياة محمد صلى الله عليه و سلم قبلا
البعثة لا يجدها بها معلومات كافية تتبع تاريخ حياته عاما بعد عام كما فعلت بعد
الهجرة , وإنما هي روايات تسلط الضوء على أحداث محدودات طوال أربعين سنة أكثرها
مرتبط بتاريخ مكة العام, ولايخص محمد منها الا القليل – وليت هذا الضوء المسلط
ضوءا ساطعا بل شابته بعض غيوم الوهم والخيال – إذ حاول المؤرخين المسلمون أن
يملأوا هذا الفراغ في تاريخ الرسول الكريم فنسجوا كثيرا من القصص والروايات نسبوها
إليه قبل بعثته وحاولوا أن يبرهنوا بها على أحقيته صلى الله عليه و سلم بالرسالة ,
في حين أن رسالته غنية عن برهان بشري لأنها منحة إلهية , وفات هؤلاء المؤرخين أن
أهل مكة الذين عاصروا محمد وعايشوه عن قرب لم يعرفوا له هذه البراهين ولم يستدلوا
بها على صحة رسالته، بل وقفوا موقف العداء و وصفوا محمد صلى الله عليه و سلم
بالكذب والسحر والجنون , كما فاتهم أن حياة محمد قبل البعثة تختلف عن حياته بعدها
, فمحمد قبل البعثة يصدر عن نفس بشرية صافية وإنسانية مثالية جمعت كل صفات الكمال
الإنساني , تحوطها العناية الإلهية لتمنعها من الوقوع في الرذائل البشرية ولتصل
بها إلى الكمال البشري المطلق , أما حياته بعد البعثة فلا ينطق عن الهوى أن هو الا
وحي يوحى علمه شديد القوى
وعلى أية حال فعلى الرغم
من محاولة المؤرخين كتابة تاريخ الرسول صلى الله عليه و سلم قبل البعثة الا أنه
مازالت هناك فجوات كبيرة في هذه الفترة لم يذكر أحد عنها شيئا
الرسول قبل البعثة
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف
بن قصي بن كلاب بن مره بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر وينتهى نسبه إلى إسماعيل عليه
السلام , وأبوه عبد الله بن عبد المطلب أحد الذبيحين المذكورين في الحديث الشريف
(أنا ابن الذبيحين) يعنى جده البعيد إسماعيل , حين أمر الله سبحانه وتعالى إبراهيم
علية السلام بذبحه , والذبيح الثاني هو والدة عبد الله وذلك أن جده عبد المطلب
حينما حفر زمزم واستخرج كنوز جرهم منها , نازعته قريش فيها ولم يكن له من أبناء
ينصرونه ويؤازرونه , فنذر لله أن رزقه عشرة من الذكور ليتقربن إلى الإلهة بواحد
منهم , ورزقه الله عشرة من الذكور فأقرع بينهم فخرجت القرعة على عبد الله فذهب به
عبد المطلب ليوفى بندرة فمنعته قريش حتى لا تكون بمثابة سابقة يعتادها العرب بعده
, فاحتكموا إلى عرافة فأفتت أن يفتدي عبد المطلب ابنه بعشرة من الإبل ويقارع بينها
وبين عبد الله فإن خرجت على عبد الله زاد عشرة من الإبل , ومازال عبد المطلب يفعل
ذلك حتى بلغ عدد الإبل مائه فخرجت القرعة على الإبل فذبحها عبد المطلب وافتدى عبد
الله والد الرسول صلى الله عليه و سلم
ومما تجدر ملاحظة أن عبد
الله لم يكن أصغر أولاد عبد المطلب , خلافا لما عليه المؤرخون, فالمعروف أن العباس
عم الرسول صلى الله عليه و سلم كان أكبر منه بعامين ولما كان الفداء فى العام
السابق لمولد الرسول صلى الله عليه و سلم يكون للعباس حينئذ من العمر عام واحد ,
أما عمه حمزة فكان في مثل عمرة فكيف يكون عبد الله أصغر من هؤلاء وهو أب لمحمد صلى
الله عليه و سلم
تزوج عبد الله بامنة بنت
وهب وهى من أشرف بيوت قريش, ولم يمضى على زواجهما إلا فترة بسيطة حتى خرج عبد الله
بتجارة إلى الشام , ولكنه لم يعد إلى مكة حيث مرض في طريق عودته فذهبوا به إلى
يثرب , فمات عند أخواله من بنى النجار ولم يمض على حمل زوجته أكثر من شهرين , وكأن
الله أنجاه من الذبح لأداء مهمة معينة فلما انتهى منها قبضت روحه !! وقيل أن عبد
الله توفي بعد مولد ابنة بعام وقيل بثمانية وعشرين شهرا والرأي الأول هو المشهور
وظلت آمنة تعيش في مكة في
كفالة عبد المطلب وبما ترك لها زوجها عبد الله من ثروة تقدر بخمسة من الإبل وقطيعا
والغنم وجارية وهى أم أيمن
مولده صلى الله عليه و سلم
ولما أتمت آمنة حملها على خير ما ينبغي ولدت محمد صلى
الله عليه و سلم وكان حملها وميلاده طبيعيين ليس فيها ما يروى من أقاصيص تدور حول
ما رأت في الحمل وليلة الميلاد , وخلت المصادر التاريخية الصحيحة كأبن هاشم
والطبري والمسعودى وأبن الأثير من مثل هذه الأقاصيص , لما ذكر ابن هشام واحدة منها
لم يكن مصدقا لها وقال (ويزعمون فيما يتحدث الناس والله أعلم) وتتأرجح روايات
المؤرخين في تحديد مولده صلى الله عليه و سلم وهل ولد يوم الثاني أو الثامن أو
الثاني عشر وهل كان في شهر صفرأو ربيع الأول وهل ولد ليلا أو نهارا , وصيفا أم
ربيعا وهل كان في عام الفيل أم قبله أم بعدهوالمشهور أنة ولد في فجر
يوم الاثنين التاسع من شهر ربيع الأول عام الفيل ويرى الباحثون أن عام الفيل غير
معروف على وجه التحديد هل كان في عام 522م أو 563م أو570 أو 571م فبحثوا عن تاريخ
ثابت محقق يمكن على أساسه تحديد مولد الرسول صلى الله عليه و سلم فوجدوا أن أول
تاريخ تحقيقه هو تاريخ الهجرة في سنة 622م وعلى هذا يمكن التوفيق بين رأي المؤرخين
و رأي الباحثين بأن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولد يوم الاثنين التاسع ربيع
الأول في العام الثالث والخمسين قبل هجرته
رضاعة صلى الله عليه و سلم
وكانت عادة أشراف مكة أن يعهدوا بأطفالهم إلى نساء البادية ليقمن على رضاعتهم , لأن البادية أصلح لنمو أجسام الأطفال وأبعد عن أمراض الحضر التي كثير ما تصيب أجسامهم فضلا عن إتقان اللغة العربية وتعود النطق بالفصحى منذ نعومه أظفارهم. وكان مقدار العناية والرعاية بالطفل يختلف من قبيلة لأخرى لذا حرص أشراف مكة على أن يكون أطفالهم عند أكثر هذه القبائل عناية , ورعاية وكانت أشهر قبيلة في هذا الأمر هي قبيلة بنى سعد
ولم تقف شهرة بنى سعد على
أمر العناية والرعاية بالطفل فقط , بل حازت الشهرة في أن لغتها كانت عربية خالصة
لم تشبها شائبة فضلا عما اشتهرت به من أخلاق كريمة طيبة لذا حرص عبد المطلب على أن
يكون محمد في بني سعد فلما جاءت حليمة السعدية لتأخذه وأحست هذا الحرص طمعت في جزل
العطاء فتمنعت في أخذه فلما أجزل لها أخذته وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم
يفخر برضاعته في بنى سعد فيقول : أنا أعربكم أنا قرشي واسترضعت في بنى سعد بن بكر
ويذكر المؤرخون أن محمد عرض
على جميع المرضعات اللاتي وفدن على مكة فأبين يأخذنه ليتمه وفقرة , وأنهن كن يطمعن
في أبناء الأغنياء وأن حليمة ما عادت إليه الا لأنها لم تجد طفلا غيره وهذا غير
صحيح فمحمد لم يكن فقيرا فهو في كفالة جدة عبد المطلب سيد مكة وكبيرها , ومثله من
يطمع في عطائه وقد ذكرت المصادر أن جيش أبرهه في حملته على الكعبة قد حاز مائتين
من الإبل لعبد المطلب , كما أنة فدى ابنة عبد الله بمائة من الإبل , وذبح مجموعة
كبيرة منها في زواجه لا يصد عنها إنسان ولا حيوان , ويذكر اليعقوبى أن عبد المطلب
عند موته لف في حلتين من حلل اليمن قيمتها ألف مثقال من الذهب فمن كان ذلك حاله
أيعقل أن يكون فقيرا تترك المرضعات ولده ؟ ذلك فضلا عن إرضاع الأطفال في البادية
عادة أشرف مكة وأغنيائها , أما الفقير فكانت كل أم ترضع طفلها
قضى محمد صلى الله عليه و
سلم في حضانة ورعاية (حليمة بنت أبى ذؤيب السعدية) وزوجها (الحارث بن عبد العزى)
أربع أو خمس سنوات ثم حدث ما جعلها تعجل بإرجاعه إلى أمه في مكة إذا أخبرها ابنها
الصغير أن رجلين أخذا محمدا فشقا صدره واستخرجا قلبه وأخذا منه علقه سوداء ثم غسلا
القلب وإعاداه إلى ما كان عليه , وقد اختلف المؤرخين في حقيقة شق الصدر هل هو حسي
أم معنوي ؟ ولكن لعله يشير إلى الحصانات التي أضفاها الله على محمد صلى الله عليه
و سلم فحصنته ضد مساوئ الطبيعة الإنسانية ومفاتن الحياة الأرضية
اشتغاله صلى الله عليه و سلم برعي الغنم
ولما شب محمد وأصبح فتى أراد أن يعمل و يأكل من عمل يده
, فاشتغل برعي الغنم لأعمامه ولغيرهم مقابل أجر يأخذه منهم , ويذهب البعض إلى أن
حرفة الرعي وقيادة الأغنام علمت الرسول صلى الله عليه و سلم رعاية المسلمين و
قيادة الأمة بعد بعثته وهذا ولا شك مبالغة كبيرة فان كثيرا غيره من الرعاة لم
يصبحوا قوادا ولا ساسة كما أن الكثير من القواد والساسة لم يعرفوا عن حرفة الرعي
شيئا , وهناك فرق كبير بين سياسة الحيوان والإنسان , لكن يمكن القول أن حرفة الرعي
لما كانت تتم في الصحراء حيث الفضاء المتناهي والسماء الصافية والنجوم المتلألئة
في الليل , والشمس المشرقة في الصباح وهذا النظام البديع في حركة الكون استرعى كل
ذلك انتباه محمد فأخذ يتأمل ويتفكر ويتدبر في الكون العجيب
اشتغاله صلى الله عليه و سلم بالتجارة
وزاول محمد مهنة التجارة وهو في الثانية عشرة من عمرة
(وقيل في التاسعة) وانتهز فرصة خروج عمه أبى طالب بتجارة إلى الشام فخرج معه وفى
الطريق قابلهما راهب مسيحي رأى في محمد علامات النبوة فنصح عمه أن يعود به إلى مكة
مخافة أن يعرفه الروم ويقتلوه
وعلى الرغم من ذكر المؤرخين
لقصة الراهب بحيرا إلا أنة لا يمكن تصديقها بسهولة, لأن محمد صلى الله عليه و سلم
نفسه لم يكن يعرف أنه نبي إلا بعد أخبره جبريل بذلك في الغار , وكل ما يعرفه رجال
الدين اليهودي والمسيحي عن الرسالة المحمدية زمانها لا شخص صاحبها, وقد أفادت هذه
الرحلة محمدا كثيرا, فعودته الصبر وتحمل المشاقة وفتحت عينية على أقوام ومجتمعات
تختلف كثيرا عن قومه ومجتمعة , ومر في الطريق الذهاب والعودة على أطلال مدن عرف
أنها ديار ثمود ومدين ووادي القرى وسمع عن أخبارهم الكثير
ولم تنقطع صلة محمد
بالتجارة بعد عودته من الشام بل كان يتاجر بالسواق مكة او بالأسواق القريبة منها
كسوق عكاظ ومجنه وذي المجاز لكنه لم يجعل التجارة كل همه واكتفى منها بما يوفر له
حياة متزنة سعيدة وكان كلما تقدم به العمر ازداد تفكيرا وتأملا وقضى الكثير من
وقته يتدبر هذا الكون العجيب
حرب الفجار
وشارك محمد مكة الدفاع عن مدينتهم في حرب الفجار بين
قريش وهوازن والتي استمر أربع سنوات كان عمر محمد في بدايتها خمسة عاما وسببها أن
النعمان بن المنذر أراد يعين قائدا لقافلة تجارية من الحيرة إلى سوق عكاظ فعرض كل
من البراض الكتاني وعروة الهوازنى نفسه فاختار النعمان عروة فقتله البراض, وسمعت
قريش وهى من كنانة الخبر وأدركت أن (هوازن) قبيلة عروة لابد أنها ستثأر لرجلها
ووقع القتال بين الفريقين
وكان في الأشهر الحرم وتراجعت قريش حتى دخلت الحرم فوعدتهم هوازن الحرب في العالم
القادم وظلت هذه الحرب تجدد طوال أربع سنوات في انعقاد سوق عكاظ , ثم انتهت بالصلح
بين الفريقين على أن تدفع قريش دية من يزيد عن قتلاها لهوازن فكانوا عشرين رجلا
وسميت هذه الحرب بحرب الفجار لأنها وقعت في الأشهر الحرم وهو الفجار الرابع في
تاريخ مكة
ويروى عن رسول الله صلى
الله عليه و سلم أنة قال في حرب الفجار:كنت أنبل على أعمامي (أي أجمع نبل عدوهم
اذا رموهم بها)وقال في حديث آخر:قد حضرتها (حرب الفجار)مع عمومتي ورميت فيها بأسهم
وما أحب أنى لم أكن فعلت
ولذلك اختلف المؤرخين في
كيفية مشاركة الرسول صلى الله عليه و سلم , وهل بجمع النبل؟أم بالرمي؟و يبدوا أن
الرسول صلى الله عليه و سلم مارس العملين, فإن الحرب استمرت أربعة أعوام , كان عمر
الرسول في بدايتها خمسة عشر عاما وهى لا تمكنه من الرمي فساهم بجمع النبل , وفي
نهايتها كان على أبواب العشرين ربيعا فتمكن أن يساهم يرمى النبل
حلف الفضول
وكما شارك محمد صلى الله عليه و سلم قومه في الحرب
شاركهم أيضا في السلم فشهد معهم حلف الفضول ولقد تحدث رسول الله صلى الله عليه و
سلم عنه بعد بعثته فقال (لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب
أن لي به حمر النعم ولو دعيت به في الإسلام لأجبت
وسبب هذا الحلف أن قريشا
رأت ما أصبح عليه حالها من ضعف وتفكك أدى إلى تطاول القبائل العربية عليها
ومهاجمتها في ديارها في الأشهر الحرم , بعد أن كانت مرهوبة الجانب قوية السلطان
ورأت أيضا ما جرته عليها حرب الفجار من قتل لرجالها وإفناء لثروتها, فقام الزبير
بن عبد المطلب يدعو إلى حلف يجمع به شأن قريش ويوحد صفوفها فأجابته جميع بطون قريش
وتحالفوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلا قاموا
معه حتى ترد عليه مظلمته
وسبب تسميته بحلف الفضول
أنة كان إحياء لحلف آخر سابق فى الجاهلية دعا إليه ثلاثة اسمهم مشتق من الفضل
فسموا الحلف بالفضول
زواجه بخديجة
ويبدو على الرغم من تجارة محمد المحدودة إلا انه اكتسب
فيها شهرة كبيرة لأمانته وشرفة المشهود له بهما في مجتمعة ومن ثم كان الكثير من
تجار مكة يعرضون عليه العمل لهم في تجارتهم مقابل أجر أكبر من أقرانه
وكانت خديجة بنت خويلد أحد
أشرف مكة ومن اكبر تجارها تستأجر الرجال ليتاجروا بما لها في أسواق الشام والحبشة
مقابل أجر لهم , ولما سمعت عن شهرة محمد تمنت أن يكون أحد رجالها –وكان يومها في
الخامسة والعشرين من عمره–فعرضت علية أن يخرج لها في تجارة إلى الشام على أن تدفع
له أجر رجلين فقبل محمد وخرج في تجارتها ومعه غلامها ميسرة وابتاع واشترى وعادت
تجارته رابحة بأكثر مما كانت تتوقع خديجة, وأثنى خادمها على محمد ثناء مستطابا
وبنظرة متأنية في أمر هذه
الرحلة يتضح أنه عليه السلام لم تكن هذه أول رحلة إلى الشام بعد رحلته مع عمه أبى
طالب , فخبرته بالطريق والمسالك المؤدية إلى الشام , وكذلك خبرته بطريقة البيع
والشراء التي عليها أهل الشام , وشراؤه السلع من الشام يروج بيعها في مكة كل ذلك
يعطينا الحق في أن نقول أن محمدا قد قام بأكثر من رحلة إلى الشام قبل رحلة خديجة
اكتسب فيها كل هذه الخبرة والمهارة وللأسف لم تسعفنا المصادر التاريخية بشيء من
ذلك
وكانت خديجة في ذلك الوقت
أرملا بلا زوج وقد عرض الكثير من أشراف مكة الزواج منها فلم تقبل لأنهم يطمعون في
ثرواتها , ولكنها سمعت عن محمد صلى الله عليه و سلم من حلو الشمائل وجميل الصفات
وما أغبطها وتأكدت من ذلك بعد ان عمل لها في تجارتها ورأت عن قرب من صفاته أكثر
مما سمعت ولم يك إلا رد الطرف حتى انقلبت غبطتها حبا جعلها تفكر في أن تتخذه زوجا
, وسرعان ما ظهرت الفكرة إلى حيز التنفيذ فعرضت عليه الزواج بواسطة إحدى صديقاتها
فوافق وتزوج بها وفقا للعادات المتبعة في زواج الشرفاء من أهل مكة حيث تبدأ بخطبة
من أهل العريس يوضحون فيها رغبة إبنهم في الزواج من العروس ويسمون المهر فيرد أهل
العروس بخطبة أخرى يوافقون فيها ويباركون الزواج
وتزوج رسول الله صلى الله
عليه و سلم خديجة فولدت له أولاده كلهم ما عدا إبراهيم فإنه من ماريا القبطية ولدت
له من الذكور القاسم وبه كان يكنى وعبد الله وهو الملقب بالطيب والطاهر وقيل أن
الطيب والطاهر أسمان لولدين آخرين ولكن الأول هو الأشهر كما ولدت له من الإناث
زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة
والمشهور عند المؤرخين أن
محمدا صلى الله عليه و سلم تزوج خديجة وعمرة خمسة وعشرين عاما وعمرها أربعين عاما,
ولكن ابن عباس يروى أنها تزوجت الرسول وعمرها ثمانية وعشرين فكانت أكبر من الرسول
بقليل, وهذا الرواية لها ما يؤيدها من تاريخ أم المؤمنين رضى الله عنها فالمعروف
أنها أنجبت عبد الله بعد البعثة النبوية ولذا لقب بالطاهر الطيب , ولما كانت
البعثة النبوية بعد زواجها بخمسة عشر عاما فعلى رواية الأربعين يستلزم أن يكون
عمرها عند إنجابه أكثر من خمس وخمسين سنة , وكيف تنجب سيدة في ذلك السن, لذلك كانت
راوية ابن عباس أقرب إلى الصحة خلافا لما عليه كثير من المؤرخين وإذا صح ما جاء في
اليعقوبى من أن الرسول تزوج وعنده ثلاثون سنة وحاولنا عقد مقارنة بينه وبين رواية
ابن عباس لا تضح لنا أن الرسول الله صلى الله عليه و سلم كان وقت زواجه أكبر من
خديجة بعامين وعلى أية حال فقد كان زواجها مباركا وموفقا للغاية فقد وجد محمد في
خديجة سكنا وسندا ورفيقا ووجدت خديجة في محمد زوجا بارا كريما فوقفت بجانبه تؤازره
وتناصره مما جعله يثني عليها دائما بالخير ولم يتزوج عليها طوال حياتها
ويقفز المؤرخين قفزة زمنية
واسعة امتدت عشر سنوات من عمر الرسول من الخامسة والعشرين إلى الخامسة والثلاثين,
لم يذكروا عنه فيها شيئا وإن كان من المسلم به أنه لم ينقطع عن مخالطة أهل مكة
والأخذ معهم بنصيب الحياة العامة وساعدته ثروة زوجته في تأمين حياته ومن ثم وجد
وقتا أوسع للتفكير و التأمل والتدبير , وكأني بخديجة وقد عرفت فيه هذا الرغبة
فهيأت له ما يساعد عليها
بناء الكعبة
ويروى المؤرخون أن محمدا صلى الله عليه و سلم وهو في
الخامسة والثلاثين شارك قومه بناء الكعبة فلقد أرادت قريش أن تهدم الكعبة وتعيد
بناءها من جديد وقسمت العمل بين جميع قبائلها فكان شق الباب لبنى مناف وزهرة وظهر
الكعبة لبنى جمح وبنى سهم , وشق الحجر لبنى عبد الدار وبنى أسد وبنى عدى , وما بين
الركن الأسود واليماني لبنى مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم
وترددت قريش في هدم الكعبة
لأنها خشيت أن يصيبهم أذى من الله , فأقدم الوليد ابن المغيرة وهدم بعضا منها ,
وانتظر القوم حتى الصباح لينظروا ما الله فاعل بالوليد فلما أصبح على خير, قدموا
يهدمون الكعبة ثم قامت القبائل بنقل الحجارة من جبال مكة وشارك عليه السلام في حمل
هذه الحجارة ثم بدأت كل جماعة في بناء ما أسند إليها فلما ارتفع البناء مقدار قامة
رجل وجاء وقت وضع الحجر الأسود في مكانة تنازعت القبائل جمعيها شرف وضعه وأشتد
الخلاف بينهم وتحالفت بنى الدار وبنى عدى أن يحولوا بين أي قبيلة وهذا الشرف
العظيم وجاءوا بحفنة مملوءة دما و وضعوا أيديهم فيها توكيدا لإيمانهم ومن ثم سموا
بلعقه الدم وباتت قريش على أهلية وتوقف البناء خمسة أيام
ويرى المؤرخون أن أبا أمية
بن المغيرة وكان من قريش لما رأى ما وصلت إلية حال القبائل خشى أن ينفرط عقدها
فأشار عليهم بأن يحكموا بينهم أول من يدخل عليهم فكان محمد عليه السلام فقالوا
رضينا بالأمين حكما واخبروه الخبر ففرد ثوبا وأخذ الحجر ووضعه وطلب من رؤساء
القبائل أن يأخذ كل منهم بطرف من أطراف الثواب فرفعوه جميعا حتى إذا بلع موضعه
وضعة بيده ثم بنى عليه وكأني لا أميل إلى تصديق الرواية فالأمر قد استحر بين
القبائل وأصبح شبح الحرب الأهلية قائمة فهل يعقل أن يجعل عقلاء مكة مصيرها في يد
أول داخل عليهم وقد يكون هذا الداخل سفيها أو معتوها فيقع مالا تحمد عقباه فضلا عن
أن الرواية تظهر محمدا وكأنه لا يعرف شيء عن هذا النزاع وأخبروه الخبر وهو الذي
حمل معهم حجارتها وشاركهم بنائها
ولكنى أصدق أن قريشا لما
اشتدت الأزمة ووصلت الأمور إلى ما وصلت إليه من خلاف كان لابد من البحث عن شخص
يعبر بها الأزمة ويجتاز بها الخلاف أحلى ما يميزه العقل والحكمة لا السن والمال
فهما لا ينفعان في مثل هذا النوع من الأزمات فلم يجدوا بين أظهرهم أعقل ولا أحكم
من محمد صلى الله عليه و سلم فاحتكموا إليه وكان الحكم السابق وعلى أية حال فإن
هذا الحل كان مثاليا وعلى الرغم من سهولته ويسره فقد كان فذا عبقريا أرضى جميع الأطراف
المتصارعة وجعل القبائل على قدم المساواة في نيل شرف وضع الحجر وأنتهى الصراع إلى
السلام والتفاهم وانحلت مشكلة خطيرة كادت أن تؤدى بأهل مكة
ومما تجدر ملاحظته أن
احتكام أهل مكة إلى محمد صلى الله عليه و سلم يدل على أنه لم يكن شخصا عاديا في
مجتمع مكة وإنما كان إنسان عظيما يستعان برأيه وقت الشدة و إهتدائه إلى هذا الحل
يدل على ذكاء نادر وسرعة بديهة كما أنه لفت إليه أنظار العرب قاطبة فهو وان كان
الصراع داخليا بين قبائل مكة إلا أن الحدث ارتبط بالكعبة التي إليها جميع العرب
وهكذا نجد أن محمد صلى الله
عليه و سلم قد شارك قومه حياتهم العادية وعاش في مكة عيشة الشرفاء المهذبين
واجتمعت له كل الصفات الإنسانية النبيلة وبلغ بها مرتبة الكمال وعرفه قومه بالصادق
الأمين وكانت عناية الله تكلؤه وترعاه وتحوطه من أفزار الجاهلية وتنأى به بعيدا عن
مساوي البشر وإليك بعض الأمثلة
ذهب وهو طفل صغير يرعى
الغنم لسماع الغناء في حفل عرس فضرب الله على أذنه فغلب عليه النوم فنام حتى
الصباح ولما أراد أن يعاود الكرة عاوده النوم أيضا فلم يعد إلى مثلها أبدا
ويقول الرسول صلى الله عليه
و سلم: لقد رأيتني في غلمان قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان كلنا قد تعرى
وأخذ إزاره فجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة فأنا لأقبل معهم وأدبر إذ لكمني
لاكم ما أراه لكمة وجيعة ثم قال شد عليك إزارك فأخذته وشددته ثم جعلت أحمل الحجارة
على رقبتي وإزاري على من بين أصحابي كذلك شملته عناية الله ورعايته ونأت به بعيدا
عن كل ما يعيب شخصه
أشترك وهو كبير مع قومه في
حمل الأحجار لبناء الكعبة وكان القوم يجعلون أزرهم على عواتقهم لتقيهم الحجارة
وكان عليه السلام يحملها وهو لابس إزاره فأشار عليه العباس أن يجعل ازاره على
عاتقة ليحميه فلما هم أن يفعل وقع مغشيا عليه فما رؤي بعد ذلك عريانا
وكان عليه السلام يذهب إلى
الكعبة ويطوف بها ولكنه لم يسجد أبدا لصنم وكان يعيب على قريش عبادتها لحجارة لا
تنفع ولا تضر ويقيمون لها الاحتفالات ويذبحون لها لقرابين
وكان لقريش صنما يسمى
"بوانه" له احتفالات كل عام وكان أعمام الرسول وعماته يشتركون في
الاحتفال وطلب أبو طالب من محمد أن يشاركهم حفلهم فرفض فغضب منه وغضبت منه عماته
وأخذن يزين له ضرورة المشاركة ومازالوا به حتى ذهب معهم وغاب محمد عنهم برهة ثم
عاد مفزوعا كأن به مس من الشيطان فسألته عماته عما به فقال أنى كلما دنوت من صنم
منها تخيل لي رجل ابيض الثياب يصيح بي ابتعد يا محمد لا تمسنه ولم يعد بعدها لعيد
لهم
ولهذا كان محمد عازفا عما
فيه قومه من ضلال وأحب منذ صغره حياة التأمل والتفكير والتدبير فكان يخلو لنفسه في
داره حينا ويخرج إلى الخلاء أحيانا وكلما زادت به السن ازداد بعدا عن الناس
وإمعانا في التفكير لذلك التمس له غار في جبل حراء وأصبح من عادته أن يخرج إليه كل
عام معه طعامه وشرابه ليقضي فيه بعض أيام شهر رمضان سابحا في تأمله غارقا في
تفكيره وطالت تأملات محمد في الغار وطال تفكيره في خالق الأرض السماء وأضاءت نفسه
من طول النظرة وأعمال الفكرة وكانت تزدحم الأفكار في رأسة فيسير في الصحراء ساعات
ثم يعود إلى خلوته وقد صفت نفسه وانجلى ذهنه
وفجأة وعندما بلغ الأربعين
من عمرة نزل علية الوحي
إرسال تعليق